11 يوماً هزّت سوريا
تشير حالة اللااستقرار، مع استثناء مرحلة حكم الأسد الأب 1970 - 2000، التي عاشتها سوريا منذ استقلالها، إلى أمرين اثنين: أولهما، عجز الحكومات المتعاقبة عن وضع الأطر اللازمة لنشوء حال من التناغم داخل نسيج مجتمعي ثقافي شديد التنوع بدرجة جعلت من هذا الأخير سيفاً ذا حدين. إذ دائماً ما كان يمكن لهذا الأخير أن يؤسس لحالة ناهضة انطلاقاً من الحيوية التي يمنحها التنوع فيما إذا ما تلاءمت البرامج والمشاريع مع التركيبة، ويفضي إلى حال من التشرذم والانهيار إذا ما جاءت هذه الأخيرة على نحو نقيض للحالة السابقة. وثانيهما، وقوع الجغرافيا السورية على حدود الصدع في فالق إقليمي وهو يمتد من الباكستان شرقاً إلى أقصى الغرب عند المغرب العربي. وهذا الأخير شكّل على امتداد القرن الماضي بؤرة لصراعات متعددة الأشكال والألوان لاعتبارات يتشارك فيها بالكثير مع الحالة السورية الآنفة الذكر. لكن الثابت أيضاً أن انزراع الكيان الإسرائيلي بين ظهراني المنطقة، عام 1948، كان ذا أثر ضاغط بدرجة كبيرة على التركيبة السورية التي راحت تتلون على خلفية التداعيات التي خلفتها عملية الانزراع آنفة الذكر. وما زاد في الطين بلة أن حالة الصراع التي فرضتها العملية السابقة كان قد جرى استخدامها، في كثير من المراحل، للعب دور«الشماعة» التي تستخدم عادة لتعليق «اللبوس» المستعمل، فيما الذي في دائرة الضوء، فحسب، هو «الغسيل» المنشور بعيد خروجه نظيفاً من «الغسالة».
كانت أحد عشر يوماً، تلك التي تلت إطلاق الفصائل المسلحة السورية لعملية «ردع العدوان» والتي حطت رحالها في دمشق يوم 7 كانون الأول الجاري، قد أحدثت تحولاً جيوسياسياً هو الأهم مما شهدته سوريا، والمنطقة، منذ سقوط نظام بغداد عام 2003، وفي الآن ذاته أثيرت الكثير من الأسئلة حول موجباته التي قادت إليه، ثم تداعياته التي سوف يتركها على الداخل السوري الذي كان دوماً «بيضة القبان» في توازن إقليمي قادر على إكساب نوع من الاستقرار لمنطقة تزايدت هشاشتها أخيراً حتى باتت ذات قوام «عجيني» رخو. والسؤال الأهم الذي يقذف بنفسه تلقائياً هنا هو: لماذا حصل ما حصل؟ ثم سوريا، ومعها المنطقة، إلى أين؟
غالبية الروايات تتجه صوب تركيا التي مضت في استثمار «لحظة» استثنائية، وهي ناجمة عن انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وكذا انشغال إيران، ومعها حزب الله، بالتوتر العام في المنطقة، الأمر – تضيف تلك الروايات – الذي جعل من الجيش السوري وحيداً في مواجهة الهجمة البادئة يوم 27 تشرين الثاني الماضي. إلا أن تلك الروايات تبدو بسيطة، أو هي لا ترصد لأكثر من نصف المشهد، فيما النصف الثاني من هذا الأخير كان هو الذي يحتوي على موجبات هذا السقوط المدوي، والذي لم يكن مفاجئاً إلا في سرعته التي ترمز لدلالات عدة لا تبررها الأحاديث من نوع الوصول إلى توافقات في الدوحة قبيل يوم أو يومين من حدوثه.
أديرت المعركة\الأزمة في سوريا على امتداد 14 عاماً عبر البعد القومي، لكن الفعل لم يكن يخلو من الاعتداد ببعد طائفي، الأمر الذي أدى إلى إذكاء النعرات من شتى الأنواع، في الوقت الذي كان يمكن فيه لإطلاق الأفق التحرري أن يؤدي إلى خلق حالة جامعة للمجتمع وهي تتسع لكل قواه وتياراته دونما استثناء. ومن حيث النتيجة، قادت تلك السياسات إلى أزمة أخلاقية راحت تتفاقم على وقع التصعيد، إذ من المستحيل الجمع بين شرف الدفاع عن فلسطين ومناهضة العدوان الإسرائيلي وبين خنق الحريات تحت ذريعة أن «طبيعة المعركة تقتضي ذلك». فالمعارك الكبرى تخاض، وتنتصر، ببعد أخلاقي وإنساني، وهو لا يقل أهمية عن موازين القوى التي تخاض على أساسها تلك المعارك. ومع اشتداد مفاعيل الأزمة المعيشية، راحت الانزياحات المجتمعية تتسارع لتراكم نزعة مفادها وجوب التغيير وبأي شكل كان.
يقول رامي الشاعر، الذي يعمل بصفة مستشار في الخارجية الروسية، في حديث إلى «الشرق الأوسط» نشر بعد ثلاثة أيام من سقوط النظام في دمشق، إن «التقييم الروسي لم يكن ذا علاقة بدرجة الإمداد للهجوم فقط»، بل «بوجود حاضنة شعبية واسعة النطاق تؤيد ذلك الحراك». ووفقاً لتلك المعطيات، فإنه «في حال حصول تقدّم واسع النطاق فإن نحو 80% من السوريين سوف يدعمونه بقوة». وعليه، لم يستطع نظام الأسد، إبّان مؤتمر الدوحة الذي انعقدت على هامشه جولة استثنائية من «أستانا» مطلع الشهر الجاري، الحصول على أي حليف أو صديق يدافع عنه. كانت التراكمات قد جعلت من الجميع بحال من اليقين تقول بضرورة «رحيل» النظام، الأمر الذي يفسّر تسارع الأحداث بشكل صاروخي وفي مدى لم يكن يتوقّعه أحد.
صبيحة 8 كانون أول الجاري، كان كيان الاحتلال أمام لحظة مفصلية اقتضت إجراء تحول جذري في «سياسته السورية»، فبدلاً من التفكير في وجوب دخول البلاد في اقتتال طائفي يعقب سقوط الأسد، راح هذا الأخير يخوض في مطارح أخرى، وهي بعيدة عن التفكير السابق، من نوع أن تصبح سوريا مستقرة وهادئة و«مطيعة» للمطالب الأميركية، الأمر الذي ظل عصياً على التحقق في غضون ثمانية عقود، من دون أن يعني ذلك أن «العصيان» كان ذا طابع «قطعي» ــــ ولربما كان هذا الفعل مبرراً بعدد من الاعتبارات التي تقتضيها عوامل داخلية وأخرى إقليمية.
الآن، سوريا بلا نظام الأسد، لكنها أيضاً «بلا أنياب». ففي غضون 72 ساعة تلت سقوط هذا الأخير، استطاع سلاح الجو الإسرائيلي مسح «معالم الجيش السوري» تماماً، وهذي اعتبارية يصعب تجاهلها إبّان رسم ملامح سوريا المستقبلية، والراجح أنها ستدفع، نتيجة لاعتبارات لها علاقة بطبيعة التصاق الذات السورية بفلسطين التي لا ترى فيها سوى جنوبها، نحو حال من اللااستقرار إذ تجد سوريا نفسها أمام حالة شبيهة بتلك التي سادت مرحلة الخمسينيات والستينيات والتي كانت فلسطين فيها «أسّ الصراع» الدائر في المنطقة. وعليه، فقد كانت سوريا «فكرة» أكثر من كونها دولة، والفكرة في مضامينها العميقة كانت تقوم على أن تكون المنطقة لشعوبها، ما يعني أن الصراع سيستمر، على أمل ألا يجد «المؤمنون» بالمشروع أنفسهم أمام خيار يدفعهم للقبول بواقع يقضي التنازل عن الحرية والعيش الكريم، بل والقبول بنزوح داخلي وخارجي، في سياق ذلك «الإيمان».
* كاتب سوري